كانت ليلة مؤلمة، لأني أفارق أمي وأبي وأخي وأختي، وأسافر لدراسة الماجستير، إلى نيو دلهي، أو دهلي حسب الوثائق التاريخية التي تلقي الضوء على تاريختلك الأرض مما يبدأ من القرون الوسطى إلى ما قبل الاحتلال البريطاني. أنا أودع بيتي الحبيب، وقريتي، وفيها نهري الذي أسبح فيها يوميا، أو أجري فيها مع القوارب الكبيرة واضعا يدي على جوانبها، وميداني الذي ألعب فيها أحيانا...سأكون بعيدا عن تلك الضوضاء الجماعية للمشجعين المتفانيين، عند مشاهدة المباراة لبرشلونا، وميسي، كما أكون غائبا عن جلسات الشاي تلك اليومية، في مطعم جولي الذي سميتها "العصبة الجولية"، محاكا من العصبة الأندلسية. لا أكون مع الألتراس لفريق أرجنتينا، لتعليق العلم الأرجنتيني في أزقة القرية. لا أشرب إذا حليبا عذبا تقدمه لي أمي أو أختي، وقد اندمجت فيه العاطفة، ولا آكل أسماك تطهيها نجاة، أختي، ولا لحما رائعا يعده أبي يوم الجمعة...
ودعت أبي في
المحطة وكان يغمغم في الدموع...كان القطار مزدحما قليلا، لكن ركوب القطار مفضل لدي
دائما لأنه ينعشنا أو هو الطريقة الأكثر مناسبة للسفر بأقل تعب وملل...كلما يجري
هذا الثعبان-الذي يشرب، لا الدم، بل النفط، وينفخ لا السم، بل الدخان. يريح من
يسافر فيه، وله إطارات فيجري على سكة الحديد-تنمحي ملامح المناطق التي تعيش فيها
أبناء لغتي الأم...ها أنذا أخذت أرى أجمل المناظر الطبيعة، في سطوح "الجبال
الغربية"، الممتدةعلى طول منطقة جنوب الهند بقرب المناطق الساحلية في خريطة
الهند...الشوارع والأنهار وسط الحقول التي تتصور كالحيات الأكثر طولا في ساحة
كبيرة، والجداول التي تلحق بالأنهار لكي تنتهي في البحر العربي، والبرك العديدة التي
تحملق عيوننا بجمالتها الفذة، والجبال التي رواسي شامخات تصافح السحب، والآكام
التي يذود الرعاة في عشبها الشياه، وفي أيديهم عصيهم مثل عصا موسى عليه السلام،
والواديات العجيبة، وفيها أنعام حرة في رعاية أبكار نقية، والمزارع الوسيعة التي
تزرع فيها مختلفة الأصناف من المزروعات، ويزرعها الفلاحون الفقراء التعساء عيشا،
لكن البسطاء اللطفاء خلقا، ثم الشلالات العجيبة العريضة، البيضاء مثل الصفائح،
التي تسقط من عل عال، تحط الجنادل الملساء...
كان القطار
بسرعة مرتفعة، وفجأة شعرت بأن شيئا باردا وقع على ساقي...المطر!! الله أكبر، ما
أجملت الطبيعة ونعم الحال إن أمطرت السماء!! بدأت بركات السماء تنزل وتبلل القطار،
ثم تسقط في الأرض لتخرج بركات الأرض. كنت واضعا يدي على عتبة النوافذ، وأحسست بهبة
نسيم يحمل معه برودة تنعش...هرعت إلى الباب لأنظر إلى هذا المنظر الجميل للغاية،
ووقفت على العتبة، واضعا جسدي خارج القطار، فكان جلدي يرتجف إحساسا لما تنزل من
المزن، وقلبي يقرأ الرسالات السماوية...أصبحت أسلم على كل إنسان يتصور في الشجر،
وأهنئ على كل بنت تتصور في الشلالات، راقصة في ملابسها الأكثر بياضا المتبللة...
الحين أنا
راقد، وعند الهدوء أمسيت أنصت لصوت الإطارات،المتكرر الموزون،وخاصة عندما تعبر
مفصلا بين السكتين، كما أحببت موسيقية الصوت لرابط المحرك الذي يربطه مع حبال
الكهرباء فوق القطار، وكانت جميلة جدا حيث تخبر المنتبه إليه بالتفاوت المتسلسل
لمعدل سرعة المحرك...القطرات تظل على النوافذ لبرهة، توحيبذكريات شتى، ثم تسقط في
الأرض بعد أن ترسم صورا جميلة منمحية على الزجاج...القطار يرقص على السكك بهزات
هينة تشبه حركات مهد الطفل.
النفقات إبداع رائع من الإبداعات التي حققها الإنسان بإذن الله، وأنا أحبها منذ طفولتي، ولما أسافر فيها أخاف عن انهيارها، لأنها إن حدثت حادثة فتقتل مائات من المسافرين، المطلعين إلى مستقبلهم الزاهر. مدخل النفقات في صدور الجبال التي نفذت فيها، تشبه لدي دائما الفاه العريض المفتوح للأخطبوط العظيم، الذي انتشر أيديه لنصيبه اليوم، وقد أقفل عيناه وأسكن جسده تماما، حتى لا يشعر الكائن البائس بوجود خطر عظيم قتال. الظلام داخل النفقات شيء جذبتني دائما، وكانت أكثر كثافة مما تعودت عليه من الظلمات، فتشكلت في نفسي خيالات عديدة. الماء المتسرب من فرجات الجلمود تلألأ في ضوء القطار، مثل عيني البكر اللوزيتين خلف نقابها... شعرت أن صدى صفارة المحرك الرنين جعل النفق أوبرا عريضا طويلا، يجرى على منصته الكبيرة قطاري، وأنا كممثل ينظر إلى الخارج، وقد فاضت عيناه شوقا إلى حبيبته الواقفة هناك، هو يودعها والقطار يتقدم، فهي تنهار في دموعها الدرية...
لا أعرف متى
نمت أنا، ولكن من الأشعة الرائعة المتدخلة إلى أقدامي، تأكدت أني استيقظت في اليوم
الثاني للسفر، وأني أصل اليوم في تلك المدينة السلطانية لفظا ومعنا، نيو دلهي،
عاصمة الهند السياسية. كان القطار يجري بأكثر سرعة، لأن في هذه الفترة لا توجد
مناطق اتخذها الأنسان مسكنا أو مزرعا، فما للسائق أن يوقفه في محطة، وهذه منطقة
صحراوية مشتركة بين الجمهورية الديموقراطية الهندية وجمهورية باكستان الإسلامية.
الهواء يصفر، وإذا اجتمعت صفارته مع صفارة المحرك أصبحت صوتا رهيبا عجيبا...أنا
فتحت النافذة، وما لبثت أن نظرت إلى الخارج حتى التهب وجهي وأدبرت إلى الوراء،
وكان الحرارة قارصة، حتى رأيت-وكنت أستر النافذة-شياها ممتدة تحت الشمس، ماتت من
أجل العطش. وقد رأيت هذا المنظر مرارا في وسائل الإعلام، ولكن لأول مرة في السفر
أنا أرى بأم عيني، وقد تابعت كثيرا وراءه أمواتا عطشانين...
bkfarooqi.wordpress.com for KSA Tours& Travels
No comments:
Post a Comment